سورة الفرقان - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


قلت: {وقال}: عطف على: {وقالوا مال هذا الرسول...} إلخ، ووضع الموصول موضع الضمير؛ للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكي عنهم مِنَ الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله- عز وجل-.
يقول الحق جل جلاله: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة.
والحاصل: أنهم يُنكرون البعث بالكلية، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل: لا يخافون لقاءنا؛ لأن الرجاء في لغة تهامة: الخوف، قالوا: {لولا}؛ هلا {أنزل علينا الملائكةُ} رسلاً دون البشر، أو: يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته، {أو نرى ربَّنا} جهرة، فيخبرنا برسالته، ويأمرنا باتباعه، وإنما قالوا ذلك؛ عناداً وعتواً.
قال تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم} أي: أضمروا الاستكبار، وهو الكفر والعناد في قلوبهم، أو: عظموا في أنفسهم حتى اجترؤوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء، {وعَتَواْ} أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان {عُتواً كبيراً}؛ بالغاً أقصى غاياته، أي: إنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم؛ إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ...} [الإسراء: 90] إلى قوله: {أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 92]. ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة؛ فذهبوا في الاقتراح كل مذهب، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام: جواب قسم محذوف، أي: والله لقد استكبروا.. الآية. وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم، ما لا يخفى.
{يوم يَرَون الملائكةَ} عند الموت أو البعث. و{يوم}: منصوب باذكر، أو بما دل عليه: {لا بُشرى يومئذٍ للمجرمين}؛ فإنه بمعنى: يُمنعون البشرى، أو: لا يبشر المجرمون. انظر البيضاوي. والجملة: استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة، بعد استعظامه وبيان كونه في غاية ما يكون من الشناعة. وإنما قيل: يوم يرون، دون أن يقال: يوم تنزل؛ إيذاناً، من أول الأمر، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه، بل على وجه آخر غير معهود. وتكرير {يومئذٍ}؛ لتأكيد التهويل، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام، لا لِقَصْرِ نَفْي البُشرى على ذلك الوقت فقط؛ فإن ذلك مُخل بتفظيع حالهم. و{للمجرمين}: تعيين على أنه مظهر، وُضِعَ موضع الضمير؛ تسجيلاً عليهم بالإجرام، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان.
{ويقولون حِجْراً محجوراً} على ما ذكر من الفعل المنفي، أي: لا يبشرون، ويقولون. وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر، وغاية هول مطلعه، أي: يقولون، عند مشاهدة ملائكة العذاب: حِجْراً محجوراً، أي: منعاً ممنوعاً منكم، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل، أو هجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة، فكأن المعنى: نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً، ويحجره عنا حجراً.
والمعنى: أنهم يطلبون نزول الملائكة- عليهم السلام- ويقترحونه، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة، وفزعوا منهم فزعاً شديداً. وقالوا، عند رؤيتهم، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع.
وقيل: هو قول الملائكة، أي: تقول الملائكة للمجرمين، حين يرونهم: حِجْراً محجوراً، أي: حراماً محرماً عليكم البشرى، أي: جعل الله ذلك حراماً عليكم، إنما البشرى للمؤمنين. و (الحجر): مصدر، يُفتح ويكسر، وقرئ بهما. من حَجَرَهُ؛ إذا منعه. وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها. ومحجوراً: لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا: موت مائت. وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطى على {حِجْراً}؛ فلعله الأوجه له.
ثم ذكر مآل أعمالهم، فقال: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} الهباء: شِبْهُ غُبَارٍ يُرى في شعاع الشمس، يطلع من كُوَّة. والقدوم هنا: مجاز. مُثلتْ حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها في كفرهم؛ من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقِرى ضيف، وعِتقٍ، ونحو ذلك، بحال من خالف سلطانه، فقدم إلى أشيائه، وقصد إلى ما تحت يديه، فأفسدها، ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها عيناً ولا أثراً، أي: عمدنا إليها وأبطلناها، أي: أظهرنا بطلانها بالكلية، من غير أن يكون هناك قدوم. والمنثور: المفرّق، وهو استعارة عن جَعْلِهِ لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.
ثم ذكر ضدهم، فقال: {أصحابُ الجنة يومئذٍ خيرٌ مُستقراً} أي: مكاناً يستقرون فيه، والمستقر: المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات، للتجالس والتحادث، {وأحسن مَقِيلاً}: مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم. ولا نوم في الجنة، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقبلاً؛ على طريق التشبيه. ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وقال سعيد الصواف: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس.
وقرأ هذه الآية. اهـ. وأما الكافر فيطول عليه، كما قال تعالى: {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
قال أبو السعود: وفي وصفه بزيادة الحسن، مع حصول الخيرية، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف. والتفضيل المعتبر فيهما: إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي: هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا، أو إلى ما لهم في الآخرة، بطريق التهكم بهم، كما مرّ في قوله: {أذلك خير.
..} الآية. اهـ.
الإشارة: هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إِبَّانِهَا وتحصيل شروطها، وهي الإيمان بالله، والإخلاص، والخضوع لمن يدل على الله، وذل النفس وتصغيرها في طلب الله. ولذلك قال تعالى في وصفهم- الذي منعهم من شهوده تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم وعَتَوْا عتواً كبيراً} أي: ولو صغروا في أنفسهم، وخضعوا خضوعاً كبيراً؛ لحصل لهم ما طلبوا، ولبُشروا بما أملوا، وفي ذلك يقول الشاعر:
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ *** إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ
تذلَّلْ لَهُ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ *** فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ
وقيل لأبي يزيد رضي الله عنه، حين قام يصلي بالليل: يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتنا من كُوّة الذل والافتقار. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خالياً، فدخلت وقلت: هلموا إلى ربكم. أو كما قال.
وفي قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ...} إلخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ: ردوه، واضربوا به وجهه؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية، فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة، فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط بل كان يشمت بمن وقع في بلاء أنا ملك الرحمة أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد؛ من صلاة، وذكر، وتفكر، وحسن خلق، فيقفون بين يدي الله، ويشهدون له بالصلاح، فيقول الرب جل جلاله: أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل، أراد به غيري، فعليه لعنتي، ثم تلعنه الملائكة والسموات». وانتهى باختصار، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.


قلت: {المُلْكُ}: مبتدأ، و{الحق}: صفته. و{للرحمن}: خبر، و{يومئذٍ}: ظرف للاستقرار.
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يوم تشَقَّقُ} أي: تنفتح، فمن قرأ بالتخفيف: حذف إحدى التاءين، وأصله: تتشقق. ومن شد: أدغم التاء في الشين، أي: تنشق {السماءُ بالغمام} أي: عن الغمام، فتنزل ملائكة السموات في تلك الغمام؛ ليقع الفصل بين الخلائق، وهو المراد بقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْملاَئِكَةُ} [البقرة: 65]. قيل: هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.
{ونُزِّلَ الملائكةُ تنزيلاً} عجيباً غير معهود. رُوي أن السموات تنشق سماءً سماءً، وتنزل ملائكة كل سماء في ذلك الغمام، وفي أيديها صحائف أعمال العباد، فيفصل الله بين خلقه، ولذلك قال: {الملكُ يومئذٍ الحقُّ للرحمن} أي: السلطنة القاهرة، والاستيلاء العام، الثابت؛ الذي لا زوال له أصلاً، هو للرحمن وحده؛ لأن كل ملْك يزول يومئذٍ، ولا يبقى إلا ملكه.
وفائدة التقييد، مع أن الملك لله في الدنيا والآخرة؛ لأن في الدنيا قد تظهر صورة الملك للمخلوق؛ مجازاً، ويكون له تصرف صوري، بخلاف يوم القيامة، ينقطع فيه الدعاوي، ويظهر الملك لله الواحد القهار، {وكان يوماً على الكافرين عسيراً} أي: وكان ذلك اليوم، مع كون الملك للمبالغ في الرحمة، {عسيراً} أي: صعباً، شديداً على النفوس بالنسبة للكافرين، وأما على المؤمنين فيكون يسيراً، بفضل الله تعالى. وقد جاء في الحديث: «أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة، صلَّوْهَا في الدنيا». ففي حديث أبي سعد الخِدري حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}، قلت: يا رسول الله، ما أطول هذا اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إِنَّهُ ليُخَفَّفُ على المؤمِنِ حتى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة، يصليها في الدنيا».
{و} اذكر أيضاً {يوم يَعَضُّ الظالمُ على يديه}؛ ندماً وتحسراً، فعض اليد والأنامل: كناية عن شدة الغيظ والحسرة؛ لأنها من روادفها، فتذكر المرادفة ويراد بها المردوف، فيرتفع الكلام بذلك في طبقة الفصاحة، ويجد السامع في نفسه من الروعة ما لا يجده عند اللفظ المكنى عنه.
والمراد بالظالم: إما عُقبةَ بْن أَبِي مُعيط، وكان خليلاً لأُبَيّ بن خلف وكان عقبة يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم من سفر وصنع طعاماً، فدعا إليه أشرف قومه، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قُرِّب الطعام، قال النبي صلى لله عليه وسلم: «ما أنا بآكل من طعام، حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله» فقال عقُبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فأكل النبي صلى الله عليه وسلم طَعَامه، وكان أُبي بن خلف غائباً فلما أُخبر، قال له: صَبأتَ يا عُقبة؟ فقال: لاَ، والله ما صبأتُ، ولكن دخل عليّ رجل فأَبَى أن يأكُلَ من طَعَامِي إلا أن أشهد له، فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يخرج من بيتي ولم يطعم، فَشَهِدْتُ لَهُ، فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً، حتى تأتيه فَتبْزُق في وَجْهِهِ، وتَطَأَ عُنقه، فَوَجَدَهُ صلى الله عليه وسلم سَاجِداً، فَفعَل ذَلِكَ، وأخذ رَحِم دابته فألقاها بين كتفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ألْقَاكَ خَارجاً من مَكَّةَ إلا عَلَوْتُ رأسَكَ بالسيفِ» فقُتِلَ عُقبةُ يَوْمَ بَدْرٍ؛ صبراً. وأما أُبيُّ فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده، يوم أُحُد، في المبارزة، طعنه في عنقه، فمات بمكة.
وعن الضحاك: لما بَصَقَ عقبة- بأمر أبي- في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، رجع بُصَاقُهُ في وجهه، وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل في وجهه حتى قتل، وقتله علي ببدر بأمره صلى الله عليه وسلم بقتله. اهـ. وقال الشعبي: كان عُقْبَةُ بن أبي معيط خليلاً لأُبَي بن خلف، فأسلم عقبة، فقال أُبيّ: وجهي من وجهك حرام، أنْ تابعت محمداً، فارتدَّ؛ لرضا صاحبه، فنزلت الآية. اهـ.
وإمَّا جنس الظالم، ويدخل عقبة فيه دخولاً أولياً.
{يقول يا ليتني}، الياء لمجرد التنبيه، من غير تعيين المنبّه، أو: المنبه محذوف، أي: يا هؤلاء {ليتني اتخذت} في الدنيا {مع الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {سبيلاً} أي: طريقاً مُنجياً من هذه الورطات، وهي طريق الإسلام، ولم أكن ضالاً، أو: طريقاً إلى الجنة، {يا وَيْلَتَي}، بقلب ياء المتكلم ألفاً، كما في صَحَارَى وعذارَى. وقرئ بالياء على الأصل، أي: يا هَلَكَتِي، تَعَاليّ؛ هذا أَوَانَكِ، {ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً}، فلان: كناية عن الإعلام، فإن أريد بالظالم عقبة، فالمعنى: لم أتخذ أبيّاً خليلاً، فكنى عن اسمه، وإن أريد به الجنس، فهو كناية عن علم كل من يضله، كائناً من كان، من شياطين الإنس والجن. وقيل: هو كناية عن الشيطان.
ثم قال: {لقد أضلني عن الذِّكْرِ}؛ عن ذكر الله، أو: القرآن، أو: الإيمان، أو موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كلمة الشهادة. وتصديره بلام القسم؛ للمبالغة في بيان خطئه، وإظهار ندمه وحسرته، أي: والله لقد أضلني عن الذكر {بعد إِذا جاءني} من الله، وتمكنت منه. {وكان الشيطانُ للإِنسان خذولاً} أي: مبالغاً في الخذلان، حيث يواليه من يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ولا ينفعه، وهو الحامل له على مخاللة المضِل ومخالفة الرسل. وقيل: المراد به خليله أُبيّ، وسماه شيطاناً؛ لأنه أضله كما يضله الشيطان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحريض على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وشد اليد علىلتمسك بسنته، والاهتداء بهديه، واتباع ما جاء به، قبل أن تقول: يا ليتني أتخذت مع الرسول سبيلاً. وفيها أيضاً: الترغيب في صحبة الأبرار، والترهيب من صحبة الفجار، وأنشد بعض الحكماء:
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ *** فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ *** تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا *** إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ
وقال آخر:
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ *** خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا
وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها *** فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصَّالح مَثَلُ العَطَّارِ، إنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْره يَعْلق بك مِنْ رِيحِه. ومَثَل الجَلِيس السُّوء مَثَلُ الكِيِر، إن لم يَحْرِق ثِيابَكَ يَعْلق بك مِن رِيحِه» وقال في الحِكَم: (لا تصحب من لا يُنْهِضُكَ حاله، ولا يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ). فإنهاض الحال هو ذكر الله عند رؤيته، والانحياش إليه بالقلب عند صحبته. ودلالة المقال على الله هو زجه في الحضرة بلا تعب، بان يرفع بينه وبين ربه الحُجُبَ، ويقول له: ها أنت وربك. وهذه حال الصوفية العارفين بالله، وقد وصفهم بعض العلماء، فقال: الصوفي من لا يعرف في الدارين أحداً غير الله، ولا يشهد مع الله سوى الله، قد سخر له كل شيء، ولم يُسخر هو لشيء، يسلط على كل شيء، ولم يسلط عليه شيء، يأخذ النصيب من كل شيء، ولم يأخذ النصيب منه شيء، يصفو به كدر كُلِّ شيء، ولا يكدر صَفْوَه شيء، قد أشغله واحد على كل شيء، وكفاه واحد من كل شيء. اهـ.
قال في التنبيه: وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد مالا يحصل له بغيرها؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل، ولا يحيط به عالم ناقل. اهـ. وفي شانهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه:
فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ فإِنهُمْ *** لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ والكَنْزُ للرَّجَا *** وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ
بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى *** بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ والرَّبْعُ شَاسِعُ
هُمُ القَصْدُ والمطْلُوبُ والسُؤْلُ والمُنَى *** واسْمُهُمُ للصَّبِّ فِي الحُبِّ شَافِعُ
هُمُ النَّاسُ فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ *** فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ
وقال الجنيد رضي الله عنه: إذا أراد الله بالمريد خيراً ألقاه إلى الصوفية، ومنعه صحبة القراء. وقال سهل رضي الله عنه: احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين. اهـ. وقال حمدون القصار رضي الله عنه: (اصحب الصوفية؛ فإن للقبح عندهم وجوهاً من المعاذير، وليس للحُسْنِ عندهم كبير موقع يعظمونك به)؛ إشارة إلى أن العجب بالعمل منفي في صحبتهم.
وقال سيدنا علي رضي الله عنه: شر الأصدقاء: من أحوجك إلى المداراة، وألجأك إلى الاعتذار.
وقال أيضاً: شر الأصدقاء من تُكُلِّف له. اهـ. وليوسف بن الحسين الداراني رضي الله عنه:
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي *** فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي
يوافقني في كل أمر أحبه *** ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي
فمن لِي بهذا ليتني قد وَجَدْتُه *** فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ
والحاصل من هذا؛ أن صحبة الصوفية هي التي يحصل بها كمال الانتفاع للصاحب، دون من عداهم من المنسوبين إلى الدين والعلم؛ لأنهم خُصوا من حقائق التوحيد والمعرفة بخصائص، لم يساهمهم فيها أحد سواهم. وسريان ذلك من الصاحب إلى المصحوب هو غاية الأمل والمطلوب، فقد قيل: مَنْ تَحَقَّقَ بِحَالَةٍ لَمْ يَخْلُ حَاضِرُوهُ مِنْهَا. انتهى من التنبيه. وبالله التوفيق.


قلت: {وقال الرسول}: عطف على: {وقال الذين لا يرجون..}، وما بينهما: اعتراض؛ لبيان قبح ما قالوا، وما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب.
يقول الحق جل جلاله: {وقال الرسولُ}؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده بعنوان الرسالة؛ للرد في نحورهم، حيث كان ما حكي عنهم قدحاً في رسالته صلى الله عليه وسلم، أي: قال، إثر ما شاهد منهم من غاية العتو ونهاية الطغيان، شاكياً إلى ربه- عز وجل:- {يا ربِّ إِن قومي}، يعني: قريشاً الذي حكى عنهم ما تقدم من الشنائع، {اتخذوا هذا القرآنَ}، الذي من جملته الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب، {مهجوراً} أي: متروكاً بالكلية، فلم يؤمنوا به ويرفعوا إليه رأساً، ولم يتأثروا بوعظه ووعيده، وهو من الهجران، وفيه تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثيرَ التعاهد للقرآن؛ لئلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّم القُرْآن؛ فعلَّقَ مُصحفاً لَمْ يتعَاهَدْهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ فيه، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتعَلِّقاً بِهِ، يَقُولُ: يَا رَبَّ العَالمينَ عَبْدُكَ هذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً، اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَهُ».
وقيل: هو من هجر؛ إذا هذى، أي: قالوا فيه أقاويل باطلة، كالسحر، ونحوه، أو: بأن هجروا فيه إذا سمعوه، كقولهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26]؛ أي: مهجوراً فيه.
وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى، فإن الأنبياء- عليهم السلام- إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجَّل لهم العذاب، ولم يُنظروا.
ثم أقبل عليه؛ مسلياً، وواعداً لنصره عليهم، فقال: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين}؛ فتسلّ بهم، واقْتَدِ بمن قبلك من الأنبياء، فَمِنْ هنا سَاروا. أي: كما جعلنا لك أعداء من المشركين، يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل، جعلنا لكل نبي من الأنبياء، الذين هم أصحاب الشرائع والدعوة إليها، عدواً من مجرمي قومِهم، فاصبر كما صبروا؛ فإن الله ناصرك كما نصرهم. {وكفى بربك هادياً ونصيراً}، وهو وعد كريم بالهداية له إلى مطالبه، والنصر على أعدائه، أي: كفاك مالِكُ أمرِك ومُبَلغك إلى غاية الكمال، هادياً إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات، التي من جملتها: تبليغ الكتاب، وإجراء أحكامه إلي يوم القيامة. أو: وكفى بربك هادياً لك إلى طريق قهرهم والانتصار منهم، وناصراً لك عليهم. والعدو: يجوز أن يكون واحداً وجمعاً، والباء زائدة، و{هادياً ونصيراً}: تمييزان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من السنة التي أجراها الله تعالى في خواصه: أن يكون جيرانهم وأقاربهم أزهد الناس فيهم، وأقواهم عليهم، وأعدى الناس إليهم. وفي الأثر: «أزْهَدُ النَّاس في العَالِم جِيرانُهُ» فلا ينتفع بالولي، في الغالب، إلا أبعدُ الناس منه، وقلَّ أن تجد ولياً عُمِّرَ سُوقُهُ في بلده، فالهجرة سنة ماضية، ولن تسجد لسنة الله تبديلاً. وكما جعل لكل نبي عدواً جعل لكل ولي عدواً، فلا بد للولي أن يبقى له من يحركه إلى ربه بالإذاية والتحريش، إما من جيرانه، أو من نسائه وأولاده؛ ليكون سيره بين جلاله وجماله، وكفى بربك هادياً ونصيراً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7